الطَّيِّبُونّ للطَّيِّبَاتْ

أوجه البيان في كلام الرحمن (الطيبون للطيبات)

يقول الحق جل وعلا:

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.                                         وبعد
فتتابع الآيات الكريمة في رأس هذا المقال ضمن ما نزل من الوحي بتبرئة الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها ، من الإفك لتقرر قضية قذف المحصنات كجريمة جسيمة وعمل يستوجب اللعن والطرد من رحمة الله لكل من اقترف ذلك العمل الخبيث الظالم ولم تكن هذه الآيات الكريمة متعلقة بقضية الإفك تحديداً بل عامة تختص بكل واقعة شبيهة  ترتكب في حق المحصنات الغافلات المؤمنات.

وجه اختلاف تأويل المفسرين رحمهم الله تعالى:
تركز اختلاف أهل التأويل في فهم هذه الآية الكريمة سورة النور:

(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26))

ووجه الاختلاف يعود لظاهر التعارض بين مفهوم الآية وواقع الحال فامتنع الجمع بين مفهوم ظاهر الآية وبين وقوع امرأة (طيبة) تحت رجل خبيث كفرعون ، ووقوع امرأة خبيثة (كامرأتي نوح ولوط) تحت أنبياء طيبين صالحين ، ويتعارض الفهم الظاهر مع واقع الحال حين تكون امرأة طيبة تحت رجل خبيث ظالم والعكس ، فكيف يمكن الجمع بين الآية الكريمة وبين واقع الحال ؟؟ ، فتأول بعض المفسرين من المتقدمين والمتأخرين تأويلاً آخراً للخروج من هذا الإشكال وسنستعرض في هذا الموضوع أقوال المفسرين ، ثم نطرح الإشكالات على كلا القولين وما نعتقد أنه الأصوب مستعينين بالله جل وعلا وحده فنستعرض أقوال المفسرين رحمهم الله فنقول:

قال ابن عباس رضي الله عنه: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، قال: ونزلت في عائشة وأهل الإفك ـ وبه قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري ـ واختاره ابن جرير، ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم! ولهذا قال تعالى: { أولئك مبرءون مما يقولون} . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء؛ والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء؛ أي ما كان اللّه ليجعل عائشة زوجة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً؛ ولهذا قال تعالى: { أولئك مبرءون مما يقولون} أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان { لهم مغفرة} أي بسبب ما قيل فيهم من الكذب { ورزق كريم} أي عند اللّه في جنات النعيم، وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الجنة.

وجاء في تفسير القرطبي رحمه الله:

قال ابن زيد : المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين : المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن : وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية. ودل على صحة هذا القول { أولئك مبرؤون مما يقولون} أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات. وقيل : إن هذه الآية مبنية على قوله { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} [النور: 3] الآية؛ فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الطيبون والطيبات. واختار هذا القول النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن زيد. { أولئك مبرؤون مما يقولون} يعني به الجنس. وقيل : عائشة وصفوان فجمع كما قال { فإن كان له إخوة} [النساء: 11]والمراد أخوان؛ قاله الفراء. و { مبرؤون} يعني منزهين مما رموا به.

وفي كتاب محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله (دفع إيهام الاضطراب في آيات الكتاب) يقول:

هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رميت به.

ومعناها: أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال, والطيبون من الرجال للطيبات من النساء. وعلى هذا يظهر تعارض هذه الآية مع قوله تعالى: (ضرب الله مثلآ للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط) إذ دلت الآية على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين.

الجواب على وجهين من أقوال العلماء:

الأول:  و به قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وغيرهم . أن الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال.والطيبات من القول للطيبين من الرجال.(وعلى هذا فلا إشكال بين الآيات)

الثاني: أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال, والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.(وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات)

والذي يظهر لمقيد الكتاب – عفا الله عنه- أن قوله (الخبيثات للخبيثين) من العام المخصوص.

مناقشة القولين والمآخذ عليهما

فكانت بذلك أقوال العلماء رحمهم الله بين القولين المذكورين ولكن رأيت أن القول الأول بالقطع بأن الخبيثات للخبيثين والطيبون للطيبات يعني النساء الخبيثات للرجال الخبيثين والعكس ، والاشكال في هذا القول ظاهر و تعارضه مع الواقع مشهور وبيِّن كما أسلفنا وهذا أدَّى بالمفسرين رحمهم الله إلى القول بأن المراد ليس على هذا الوجه بل أن المراد أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس والطيبات من الكلمات والأقوال للطيبين من الناس للخروج من هذا الإشكال ودرءه ولكن هذا القول تعترضه إشكالات و أسئلة عدة:

أولاً : فيعارضه  أن الطيبين يمكن أن يتفوهون بالخبيث من القول فلا عصمة من قول السوء إلا لمن عصم الله ، وكذلك الخبيثين من الناس لا يمتنع أنهم قد يتفوهون بالطيب من القول والصدق منه فهاهو الشيطان يلتقي ابا هريرة رضي الله عنه فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (صدقك وهو كذوب) وبذلك فإن القطع بأن كل قول خبيث لأهل الخبث وكل قول طيب للطيبين قول غير دقيق وبذلك يتساوى الأمر في عدم اطلاق القول في الحالتين سواء كان المقصود النساء والرجال أو كان المقصود الأقوال الخبيثة والطيبة وقائليها وبهذا يستمر الإشكال ولا يدرأه هذا القول.

ثانيا: الآية عامة لكل الطيبين والطيبات وليس قول مخصوص بعائشة رضي الله عنها حيث تقدمت تبرئتها قبل تلك الآيات فكيف يكون الطيبون والطيبات (مبرؤون ) مما يقال فيهم ونحن نعلم أن هناك من الطيبين والطيبات من الذين قذفوا بالسوء من مات ولم تظهر براءته ؟ وآخرين ظهرت براءته واستمر أهل السوء ينكرونها ويلمزونه وينتقصونه.

ولو قال (أولئك أبرياء أو بُرَآءُ) لكان ذلك مفهوماً فالمعنى هو توافر أصل البراءة في الطيبين والطيبات ولكن القول مبرؤون يفهم منها وقوع التبرئة بفاعل خارجي وهذا ليس بلازم الوقوع فإن كان الله جلت قدرته قد أنزل قرآناً يتلى يبرئ الطاهرة عائشة رضي الله عنها فكم من المؤمنين الطيبين من مات متهماً مقذوفاً بالسوء وهو بريء لم يجد التبرئة ولم يبرئهم أحد.

وبرغم ذلك فنجد ممن ينتسب للإسلام – و الإسلام منهم براء – لا يزال يطعن في عرض الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله عنها وينفي أن آيات الإفك في تبرئتها لعنهم الله.

ثالثا: فالجموع وتبادلها هنا لا قرينة على تمييزها ولا دليل على أن المراد منها (الكلمات) والأقوال وقائليها وليس النساء والرجال ، بل إن الإشارة في الآية الكريمة (أولئك) إشارة جمعت في ظاهرها الطيبين والطيبات.

رابعا: فنسبة الطيبات (الأقوال) للطيبين من (المؤمنين) مفهوم وجائز ولكن بالمقابل كيف ينسب المؤمنون (الطيبون) للطيبات من (الأقوال) ؟ فالتبادل يدل بداهةً على التجانس وهو مالا نلحظه في هذا المفهوم.

توجيه الآية الكريمة

أولاً : هذه الآيات والله أعلم لا تختص كما أسلفنا بحادثة الإفك فقط بل تشمل كل قذفٍ للأبرياء بالسوء وتبين عقوبتها وتهتم بخصوص الجرم وعموم العقوبة، فالإفك الذي قيل في الطاهرة عائشة رضي الله عنها سبق القول بنفيه وتبرئتها فانتقل السياق القرآني لتبيان فداحة هذا القول وإشاعته في المؤمنين الطيبين الأبرياء وما يترتب عليه من عقوبة أخروية.

ثانيا: السياق القرآني من قوله تعالى:  (وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ .. الآية) وحتى قوله تعالى : (أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يتحدث عن الآخرة وليس عن الدنيا ، فقد ختم الآية الثالثة والعشرون بالعطف على الآخرة ثم بدا الآية التي تليها يصف ما يقع يوم القيامة لأولئك المفترين عندما تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول بالباطل والسوء وإشارة للباطل والسوء ولمز وهمز بالقذف وسير بالنميمة والبهتان بين الناس.
ولقد صرف الله تفصيل العقوبة على هذا الجرم وتبعاته في الآخرة لأنه مما يشاع بالكلام ويصعب الاستدلال على قائله الأصلي فصار في حكم الغيب الذي لا حكم فيه إلا يوم العرض ، ولا براءة منه إلا على رؤوس الأشهاد.

ثالثاً: ويستمر الوعيد والتهديد لأولئك المجرمين بأن يوم القيامة موعد إيفائهم ما توعدهم الله به فيقول (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) فيحصدون سوء ما ارتكبوه ويعلمون أنهم وإن خفيت أسمائهم وأعيانهم عن الخلق فلا تخفى على الله.

رابعاً : ويستمر ربنا جلت قدرته يصف مآلات الطيبين والطيبات من المؤمنين والخبيثون والخبيثات من المجرمين فيومئذٍ يُجمع الطيبين مع الطيبات في جنات النعيم ويُجمع الخبيثون مع الخبيثات في دركات الجحيم .

خامساً: ويستمر ربنا جلت قدرته يصف ما سيحدث (لأولئك) الطيبون والطيبات الذين جرى عليهم الإفك والقول بالسوء بأن الله يوقع التبرئة أمام الناس فعبر بقوله جل وعلا (أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ – بإيقاع البراءة من الله لهم – مِمَّا يَقُولُونَ – أهل الخبث عنهم في الدنيا) فيحصلون على التبرئة القاطعة على رؤوس الأشهاد ، ويجمعون مع نظرائهم الطيبين والطيبات في الجنة تأكيداً لبراءتهم وإكرام الله لهم.

سادسا : يصف مآلهم وما أعدَّ لهم بعد تبرئتهم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وإدخالهم الجنة وإيتائهم الرزق الكريم بين أقرانهم وإخوانهم من أهل الجنة.

وبالتالي فكل السياق كان يتحدث عن مآل الطيبين والطيبات في الآخرة وهذا يتسق مع المعلوم من هذا الأمر لكل مؤمن ، فالعبرة في الاقتران ليس في الدنيا ولكن في الآخرة ففي الدنيا لا يمكن أن يكون القطع بأن كل طيب يكون له امرأة طيبة وكل خبيث له امرأة خبيثة ولكن في الآخرة لا شك في وقوع ذلك ، فيفرق الله بين من جمعت بينهم الدنيا من طيبين وأهل خبث فيجعل الطيبين في الجنة مع الطيبات ، والطيبات فيها كذلك مع الطيبين ، ويجعل الخبيثين مع الخبيثات في جهنم.

ولو تتبعنا السياق من أواخر الآية الثالثة والعشرين للاحظنا بجلاء تسلسل زمني تراتبي يبدأ بالآخرة ويمر بالحساب وينتهي بالجزاء بالمغفرة والرزق الكريم في جنات النعيم.

وتقع التبرئة من الله ليس فقط لمن برأه الله في الدنيا بنص كتابه (كمريم عليها السلام ) و(عائشة رضي الله عنها) بل يؤكد برائتهن وبراءة كل محصنة مؤمنة قذفت في الدنيا ويعلن تلك البراءة على رؤوس الأشهاد فيكونون (مبرؤون) مما قيل فيهم في الدنيا براءة قاطعة مشهودة لا التفاف عليها ولا تكذيب ، ويجزيهم الله بالمغفرة والرزق الكريم في جناته جنات النعيم.

هذا والله أعلى وعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »